بيوتنا القديمة
كتبها / سعود الصاعدي
لم نشمّ رائحة الدهان الملوّن بَعْدُ، ولم نبصر الجدر الناعمة، ولا سكنّا في ذلك الوقت البيوت الشاهقة، وإنما كانت بيوتنا صغيرةً رغرفةً فقط، ويقبع بجانبها على استحياء (المطبخ) مع فناء صغير ممتلئ بالحصباء والتربة الناعمة وفي أطرافه خزّان الماء (الحنفيّة).. هذا هو البيت الذي نقاوم به وهج الشمس ونتخذه ستراً عن الحرِّ والقرِّ..
أما صاحب الثراء في ذلك الوقت فكان لا يزيد على جيرانه إلاَّ بغرفةٍ أخرى وصالة تدعى (السيب).. لكن الحياة كانت هانئة رغيدة على الرغم من ضيق البيوت لأنَّ الصدور مُتّسعة لحمل كل أبناء الحي برجاله ونسائه.
أما الآن فربما تضيق القصور الباسقة بأصحابها الذين تضيق صدورهم فلا تتسع لمحبة الناس! ولعمر الله ماذا يريد المرء بقصره المتسع وهو يحمل نفسه الأنانية وصدره الضيّق ولا يحب سوى أهل بيته فقط؟!
كانت حارتنا القديمة في الزمن الماضي مُتقشّفة من زخرف الحياة، قد جمع الفقر وقلة ذات اليد بين الجيران فهم يجتمعون في بيتٍ واحدٍ على مائدة الإفطار في رمضان، وعلى الموائد الأخرى في الأيام المتبقية في سائر العام! كلُّ ذلك لأنهم يعيشون في بساطةٍ من العيش لا يفصل الجار عن الجار إلاَّ بابٌ وجدار! حتى الأطفال كانوا يتقافزون فرحين من غرفة إلى غرفة ومن جدار إلى جدار!
أما الآن فقد طالت الجدر وأوصدت الأبواب إيذاناً بأنَّ الدنيا قد نسجت نسيجها وأنَّ الحياة قد بدّلت طريقها وبأنَّ قلوب الناس لم تعد مشرعة الأبواب للحب والصفاء وللأخذ والعطاء.. بل صار كلُّ فرد يفكر متى يبني بيتاً يهرب فيه عن جيرانه ويتستر به عن أقرانه.. وصار كلُّ فرد يلهث خلف الحطام الزائل ليشيّد قصراً منيفاً يتسوَّر به عن الناس!
بيوتنا القديمة كانت مسقّفة بالطين والأخشاب، والطينُ من طبيعته ينبت الزرع ويقبل الماء! أما قصورنا فسقوفها الحديد والإسمنت الجاف الذي لا ينبت فيه وردة ولا تشم منه إلا رائحة…! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [رواه البخاري].
وهل يكون الهلاك إلا بالشتات والبعد والتباغض والتنافس على التطاول في البنيان من الحفاة العالة رعاء الشّاء!
يقولون : إنَّ امرأة من البادية كانت تعيش في بيت متواضع وفجأة تغيّرت أحوالها وتبدّلت دنياها فسكنت القصر وتنفّست الهواء الطلق من الشرفة (البلكونة) وصارت تميس كالخيزران وتتثنّى نعومةً، وفي يوم من أيام نعومتها المفرطة أطلّت من الشرفة فرأت قطيعاً من الغنم.. فتذكرت حياتها القديمة ولكنها كابرت وجحدت؛ فقالت في زهوٍ وكِبْرٍ: "وش السوادين اللي على روسها عوادين!!" فكانت كالحمار الذي لبس جلد حصان ليغيّر نفسه ولكنّه نهق!! ولكنّها لا تستطيع تعديل اعوجاج لسانٍ ألف الحياة القديمة سنوات فقد دلّت عليها (السوادين) و(العوادين) والسوادين إنْ كنت أخي القارئ لا تعلم فتعني بها سواد الأغنام، والعوادين قرونها المعقوفة فوق رؤوسها. وصدق القائل :
ما دام يصحب كلَّ شيءٍ صوتُهُ
هيهات يخفي العَيْرَ جلدُ حصانِ !!
كتبها / سعود الصاعدي
لم نشمّ رائحة الدهان الملوّن بَعْدُ، ولم نبصر الجدر الناعمة، ولا سكنّا في ذلك الوقت البيوت الشاهقة، وإنما كانت بيوتنا صغيرةً رغرفةً فقط، ويقبع بجانبها على استحياء (المطبخ) مع فناء صغير ممتلئ بالحصباء والتربة الناعمة وفي أطرافه خزّان الماء (الحنفيّة).. هذا هو البيت الذي نقاوم به وهج الشمس ونتخذه ستراً عن الحرِّ والقرِّ..
أما صاحب الثراء في ذلك الوقت فكان لا يزيد على جيرانه إلاَّ بغرفةٍ أخرى وصالة تدعى (السيب).. لكن الحياة كانت هانئة رغيدة على الرغم من ضيق البيوت لأنَّ الصدور مُتّسعة لحمل كل أبناء الحي برجاله ونسائه.
أما الآن فربما تضيق القصور الباسقة بأصحابها الذين تضيق صدورهم فلا تتسع لمحبة الناس! ولعمر الله ماذا يريد المرء بقصره المتسع وهو يحمل نفسه الأنانية وصدره الضيّق ولا يحب سوى أهل بيته فقط؟!
كانت حارتنا القديمة في الزمن الماضي مُتقشّفة من زخرف الحياة، قد جمع الفقر وقلة ذات اليد بين الجيران فهم يجتمعون في بيتٍ واحدٍ على مائدة الإفطار في رمضان، وعلى الموائد الأخرى في الأيام المتبقية في سائر العام! كلُّ ذلك لأنهم يعيشون في بساطةٍ من العيش لا يفصل الجار عن الجار إلاَّ بابٌ وجدار! حتى الأطفال كانوا يتقافزون فرحين من غرفة إلى غرفة ومن جدار إلى جدار!
أما الآن فقد طالت الجدر وأوصدت الأبواب إيذاناً بأنَّ الدنيا قد نسجت نسيجها وأنَّ الحياة قد بدّلت طريقها وبأنَّ قلوب الناس لم تعد مشرعة الأبواب للحب والصفاء وللأخذ والعطاء.. بل صار كلُّ فرد يفكر متى يبني بيتاً يهرب فيه عن جيرانه ويتستر به عن أقرانه.. وصار كلُّ فرد يلهث خلف الحطام الزائل ليشيّد قصراً منيفاً يتسوَّر به عن الناس!
بيوتنا القديمة كانت مسقّفة بالطين والأخشاب، والطينُ من طبيعته ينبت الزرع ويقبل الماء! أما قصورنا فسقوفها الحديد والإسمنت الجاف الذي لا ينبت فيه وردة ولا تشم منه إلا رائحة…! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [رواه البخاري].
وهل يكون الهلاك إلا بالشتات والبعد والتباغض والتنافس على التطاول في البنيان من الحفاة العالة رعاء الشّاء!
يقولون : إنَّ امرأة من البادية كانت تعيش في بيت متواضع وفجأة تغيّرت أحوالها وتبدّلت دنياها فسكنت القصر وتنفّست الهواء الطلق من الشرفة (البلكونة) وصارت تميس كالخيزران وتتثنّى نعومةً، وفي يوم من أيام نعومتها المفرطة أطلّت من الشرفة فرأت قطيعاً من الغنم.. فتذكرت حياتها القديمة ولكنها كابرت وجحدت؛ فقالت في زهوٍ وكِبْرٍ: "وش السوادين اللي على روسها عوادين!!" فكانت كالحمار الذي لبس جلد حصان ليغيّر نفسه ولكنّه نهق!! ولكنّها لا تستطيع تعديل اعوجاج لسانٍ ألف الحياة القديمة سنوات فقد دلّت عليها (السوادين) و(العوادين) والسوادين إنْ كنت أخي القارئ لا تعلم فتعني بها سواد الأغنام، والعوادين قرونها المعقوفة فوق رؤوسها. وصدق القائل :
ما دام يصحب كلَّ شيءٍ صوتُهُ
هيهات يخفي العَيْرَ جلدُ حصانِ !!
السبت أكتوبر 12, 2013 6:48 pm من طرف أبو مشاري
» شخصيات من الحي
الأحد أبريل 10, 2011 12:23 am من طرف زائر
» الشنقيطي يشرح بمسجد التنعيم
الإثنين أكتوبر 05, 2009 3:46 am من طرف ابو صبا
» منازل ايران قبل 700 سنة
الجمعة سبتمبر 04, 2009 6:18 am من طرف أبو مشاري
» رمضان شاهد لك او عليك
الخميس سبتمبر 03, 2009 10:52 am من طرف أبو مشاري
» حياة القلوب
الإثنين أغسطس 31, 2009 11:24 pm من طرف أبو مشاري
» اسئلة بدون مجاملة للواثقين فقط
الأربعاء أغسطس 26, 2009 1:58 am من طرف ابو صبا
» تحديد القبلة بالجوال .........راااااائع
الأحد أغسطس 16, 2009 8:45 am من طرف ابو صبا
» المصحف الشريف على شاشتك كأنك تلمسه
الأحد أغسطس 16, 2009 8:26 am من طرف ابو صبا