هدايا المسافر
كتب : سعود الصاعدي
حارتنا القديمة كانت تحتضن أُناساً طيبين يشتاق بعضهم لبعض، ويتفقّد بعضهم بعضاً لأنهم – كما أسلفت سابقاً – متقاربون في المعيشة ولأنهم قليلو العدد ولذلك كان الجيرانُ يتبادلون التحايا والهدايا عند العودة من السفر، ولستُ أنسى تلك (السُّبح) أو (المسابح) التي يحضرها معهم القادمون من المدينة النبوية (والخواتم) الفضية التي تسعد مَنْ أُهديت له!
كذلك لا أفقد تلك النشوة والقشعريرة التي تنتابني وأنا أركض (بحزمة النعناع المديني) ورائحته تسبقني إلى بيتنا.. ولا خرائط (المضير) القادم من البادية.. تلك الهدايا كانت نسيجاً محكماً ينسج علاقات المحبة والودّ بين أسر الحيّ القديم.. والمسافر عندما يعود إلى (الحارة) يحمل أشواقه مع هداياه وتحفه إلى حيث يقطن أبناء عمومته وأبناء حارته.. وليس من بيتٍ إلا وله نصيبٌ من تلك الهدايا والتحف..
هكذا كانت حارتنا القديمة… يغيب المسافر فيشتاق له كل أهل الحيّ يسألون عن أخباره ويستبطئون عودته لأنهم متحابون وقلة ودائماً ما يتبع الحُبُّ القلة في العدد فإذا تكاثر الناس مزّقوا هذه الكلمة الصغيرة (الحُب) وتقاسموها فيما بينهم فانظر بما يظفر به كل أحد منهم واسأل نفسك أنت بم ظفرت؟!
يغيب المسافر ثم يعود فيتفقّد أفراد الحيّ واحداً تلو الآخر…
فهذا (عبد الله بن مرزوق) قادم معه (الجزر الأحمر).. وهؤلاء مجموعة من المسافرين يعودون في أيديهم (ميداليات منقوشة).
أما اليوم.. فقد ضاع جزر عبد الله بن مرزوق.. وعاد المسافرون يحملون أمتعتهم مبعثرة لا تجد فيها إلاَّ قليلاً من الهدايا ولخاصة الخاصة! وربما عادوا وأيديهم خالية الوفاض! لا لشيء إلا لأن الدنيا ضاقت فصار العالم قرية صغيرة.. يسافر الرجل فيلحقه جاره ويتلُّه بسلك الهاتف حتى لو كان في بطن السباع.. فيعود بلا اشتياق لا يشعر برغبة اللقاء ولا ينام في صدره طائر الحُبّ لأنه يحسُّ ويشعر أنه قريب.. ومن ثم يبعد قلبه دون أنْ يتحسسه.. وهذه الهدايا بدأت الآن تتناقص شيئاً فشيئاً ولم تعد عودة المسافر تعني للجيران إلا زيادة سيارة في مواقف السيارات.. وضيق في مكان الشارع!!
في حارتنا القديمة كنا تضطرب ونصاب بالوجل وتتملكنا الدهشة إذا قيل هذا قادم من الطائف! أو مغادرة إلى الطائف.. لا أعني أنه مجنون.. وإنما لأن الطائف كان بعيداً… بعيداً جداً… الطائف الله ما أكبرها! أما (أبها) فهي العنقاء بعينها! كنت أرى لها صوراً في كتاب المدرسة تتصدر نصاً شعرياً فأظن أنها خيالٌ أو أحاديث كتب.. لم أكن أتصور أو أتوقع أن أصل إلى هذه المدينة الحالمة المكللة بتيجان السحب والمعطرة بأنفاس المطر والورد!
مضت الأيام فتمددت عروق حارتنا القديمة ونشقت على استحياءٍ من نسيم البهيتة العليل.. فاقتربنا من الطائف.. ها هو الآن الثعبان الأسود (طريق الكر) يلتف على الجبل ونحن نقفو أثره حتى صعدنا إلى السماء ورأينا الهدا.. ثم الشفا.. ها هم أولاد حارتنا يملؤون قارعة الطريق.. ما أكثر السيارات.. الوانيت يطل من خلف (غمارته) تيسٌ مربوط.. يتنفس الهواء الطلق ثم ينام نومته الأخيرة!! صغرت (البهيتة) في نفوسنا..
وبدأنا نتطلّع إلى حيث نظن أنه من المستحيل..
تُرى مَنْ يستطيع أن يقتحم هذا المستقبل المجهول فيعود لنا بغصنٍ رطب من (أبها) هذه المدينة التي يزعمون!!
أتذكر أن أول من اقتحم هذا الباب المغلق وغامر بحياته زمرة من الشباب.. عادوا لنا مدهوشين أو لعلهم يصطنعون الدهشة فخراً وفرحاً.. يقولون ويصفون.. ثم توافدنا جميعاً إلى هذه المدينة الحالمة فوجدناها تمشّط صغائرها على قمم الجبال وتغتسل أمام الناس بماء المطر! وتنثر الورد على جنبات الطريق!
عاد لنا من جديد اسم (البهيتة) فضحكنا ملء أشداقنا! ضحكنا كثيراً على هذا الاسم لأنه صار في نفوسنا المتقعّرة اسماً صغيراً وحقيراً.. ونسينا أنه أول اسم قبّل صدورنا بالنسيم وملأ أفئدتنا بالبهجة.. ولكنها عادة أبناء البادية الحفاة العراة يبدؤون ضعفاء فإذا ما ارتقوا تعاظموا!! وإذا ما حلقوا في السماء رأوا الناس صغاراً فظنوا أنهم أكبر الناس..
( البهيتة ) مسكينة هذه الأرض ترتعد فرائصها إذا ما ذُكرت عند أولئك الذين وصلوا إلى مدينة الضباب- لندن - أو إلى مدينة العطر- باريس - .. والأحق أن تكون الأولى مدينة الذباب والثانية مدينة العهر!.
كتب : سعود الصاعدي
حارتنا القديمة كانت تحتضن أُناساً طيبين يشتاق بعضهم لبعض، ويتفقّد بعضهم بعضاً لأنهم – كما أسلفت سابقاً – متقاربون في المعيشة ولأنهم قليلو العدد ولذلك كان الجيرانُ يتبادلون التحايا والهدايا عند العودة من السفر، ولستُ أنسى تلك (السُّبح) أو (المسابح) التي يحضرها معهم القادمون من المدينة النبوية (والخواتم) الفضية التي تسعد مَنْ أُهديت له!
كذلك لا أفقد تلك النشوة والقشعريرة التي تنتابني وأنا أركض (بحزمة النعناع المديني) ورائحته تسبقني إلى بيتنا.. ولا خرائط (المضير) القادم من البادية.. تلك الهدايا كانت نسيجاً محكماً ينسج علاقات المحبة والودّ بين أسر الحيّ القديم.. والمسافر عندما يعود إلى (الحارة) يحمل أشواقه مع هداياه وتحفه إلى حيث يقطن أبناء عمومته وأبناء حارته.. وليس من بيتٍ إلا وله نصيبٌ من تلك الهدايا والتحف..
هكذا كانت حارتنا القديمة… يغيب المسافر فيشتاق له كل أهل الحيّ يسألون عن أخباره ويستبطئون عودته لأنهم متحابون وقلة ودائماً ما يتبع الحُبُّ القلة في العدد فإذا تكاثر الناس مزّقوا هذه الكلمة الصغيرة (الحُب) وتقاسموها فيما بينهم فانظر بما يظفر به كل أحد منهم واسأل نفسك أنت بم ظفرت؟!
يغيب المسافر ثم يعود فيتفقّد أفراد الحيّ واحداً تلو الآخر…
فهذا (عبد الله بن مرزوق) قادم معه (الجزر الأحمر).. وهؤلاء مجموعة من المسافرين يعودون في أيديهم (ميداليات منقوشة).
أما اليوم.. فقد ضاع جزر عبد الله بن مرزوق.. وعاد المسافرون يحملون أمتعتهم مبعثرة لا تجد فيها إلاَّ قليلاً من الهدايا ولخاصة الخاصة! وربما عادوا وأيديهم خالية الوفاض! لا لشيء إلا لأن الدنيا ضاقت فصار العالم قرية صغيرة.. يسافر الرجل فيلحقه جاره ويتلُّه بسلك الهاتف حتى لو كان في بطن السباع.. فيعود بلا اشتياق لا يشعر برغبة اللقاء ولا ينام في صدره طائر الحُبّ لأنه يحسُّ ويشعر أنه قريب.. ومن ثم يبعد قلبه دون أنْ يتحسسه.. وهذه الهدايا بدأت الآن تتناقص شيئاً فشيئاً ولم تعد عودة المسافر تعني للجيران إلا زيادة سيارة في مواقف السيارات.. وضيق في مكان الشارع!!
في حارتنا القديمة كنا تضطرب ونصاب بالوجل وتتملكنا الدهشة إذا قيل هذا قادم من الطائف! أو مغادرة إلى الطائف.. لا أعني أنه مجنون.. وإنما لأن الطائف كان بعيداً… بعيداً جداً… الطائف الله ما أكبرها! أما (أبها) فهي العنقاء بعينها! كنت أرى لها صوراً في كتاب المدرسة تتصدر نصاً شعرياً فأظن أنها خيالٌ أو أحاديث كتب.. لم أكن أتصور أو أتوقع أن أصل إلى هذه المدينة الحالمة المكللة بتيجان السحب والمعطرة بأنفاس المطر والورد!
مضت الأيام فتمددت عروق حارتنا القديمة ونشقت على استحياءٍ من نسيم البهيتة العليل.. فاقتربنا من الطائف.. ها هو الآن الثعبان الأسود (طريق الكر) يلتف على الجبل ونحن نقفو أثره حتى صعدنا إلى السماء ورأينا الهدا.. ثم الشفا.. ها هم أولاد حارتنا يملؤون قارعة الطريق.. ما أكثر السيارات.. الوانيت يطل من خلف (غمارته) تيسٌ مربوط.. يتنفس الهواء الطلق ثم ينام نومته الأخيرة!! صغرت (البهيتة) في نفوسنا..
وبدأنا نتطلّع إلى حيث نظن أنه من المستحيل..
تُرى مَنْ يستطيع أن يقتحم هذا المستقبل المجهول فيعود لنا بغصنٍ رطب من (أبها) هذه المدينة التي يزعمون!!
أتذكر أن أول من اقتحم هذا الباب المغلق وغامر بحياته زمرة من الشباب.. عادوا لنا مدهوشين أو لعلهم يصطنعون الدهشة فخراً وفرحاً.. يقولون ويصفون.. ثم توافدنا جميعاً إلى هذه المدينة الحالمة فوجدناها تمشّط صغائرها على قمم الجبال وتغتسل أمام الناس بماء المطر! وتنثر الورد على جنبات الطريق!
عاد لنا من جديد اسم (البهيتة) فضحكنا ملء أشداقنا! ضحكنا كثيراً على هذا الاسم لأنه صار في نفوسنا المتقعّرة اسماً صغيراً وحقيراً.. ونسينا أنه أول اسم قبّل صدورنا بالنسيم وملأ أفئدتنا بالبهجة.. ولكنها عادة أبناء البادية الحفاة العراة يبدؤون ضعفاء فإذا ما ارتقوا تعاظموا!! وإذا ما حلقوا في السماء رأوا الناس صغاراً فظنوا أنهم أكبر الناس..
( البهيتة ) مسكينة هذه الأرض ترتعد فرائصها إذا ما ذُكرت عند أولئك الذين وصلوا إلى مدينة الضباب- لندن - أو إلى مدينة العطر- باريس - .. والأحق أن تكون الأولى مدينة الذباب والثانية مدينة العهر!.
السبت أكتوبر 12, 2013 6:48 pm من طرف أبو مشاري
» شخصيات من الحي
الأحد أبريل 10, 2011 12:23 am من طرف زائر
» الشنقيطي يشرح بمسجد التنعيم
الإثنين أكتوبر 05, 2009 3:46 am من طرف ابو صبا
» منازل ايران قبل 700 سنة
الجمعة سبتمبر 04, 2009 6:18 am من طرف أبو مشاري
» رمضان شاهد لك او عليك
الخميس سبتمبر 03, 2009 10:52 am من طرف أبو مشاري
» حياة القلوب
الإثنين أغسطس 31, 2009 11:24 pm من طرف أبو مشاري
» اسئلة بدون مجاملة للواثقين فقط
الأربعاء أغسطس 26, 2009 1:58 am من طرف ابو صبا
» تحديد القبلة بالجوال .........راااااائع
الأحد أغسطس 16, 2009 8:45 am من طرف ابو صبا
» المصحف الشريف على شاشتك كأنك تلمسه
الأحد أغسطس 16, 2009 8:26 am من طرف ابو صبا