أهازيج الباعة
كتب : سعود الصاعدي
عندما يسفر الصباح وتطل الشمس من خدرها من خلف الجبل تبدأ أصوات الطيور تتسلل إلى أذن الحي ليفيق النائمون.. وتدب الحركة في شريان الحارة القديمة! وما هي إلا لحظات حتى تمتلئ قارعة الطريق بالغادي والرائح من الباعة المتجولين وترتفع أهازيج من أفواههم لتنطلق منادية أبناء الحارة.. فهذا بائع ينادي بأعلى صوته.. (حلو برد مال الشفا .. يا بليلة كل يا وليد!) وآخر ينادي على (الكراث والليمون) يحملها في زنبيل من الخصف ويغطيها بأكياس مبللة بالماء.. يحملها في تؤدة وسكينة ويسير بأقدامٍ أنهكها طول الزمان، وبضاعته على رأسه المشتعل بياضاً!
وهناك بائع يبيع (الحلوى) بالبيض! على طريقة الاستبدال وهي طريقة قديمة جداً جاءت من الزمن البعيد قبل أن تظهر النقود! وقد كان الباعة المتجولون غادين رائحين في الحي صباحاً ومساءً يدخل هذا ويخرج ذاك فلم يكن أحد يذهب إلى السوق ولم يعرفن النساء التجول في الأسواق لأن السوق كان يأتي إليهن فهذا (فرّقنا) يحمل (بقشته) الممتلئة بالثياب فإذا رأينه ربات البيوت برزن له على الأبواب واشترين من عنده ما يحل في صدورهن البهجة والسرور.. بلا بطر ولا إسراف في الملابس على أني ليست أدري ماذا يعني (فرقنا) للنساء في ذلك الوقت لأنه إذا أقبل أقبلن عليه مسرورات وكأنه من أهل الدار.. ربما لأنهن يعتقدن جهلاً أنه ليس رجلاً! أو أنه غير مخلوق من الطين وإنما خلق من الثياب التي يبيعها فهن يعتبرنه كالبضاعة التي على عاتقه!! أقول ربما!!
ومن الباعة المتجولين في ذلك الوقت زمرة من الأطفال الذين صاروا الآن شباباً مفتولي السواعد!
فهذا أحدهم يحمل صندوق البليلة على رأسه وينادي في عصامية فريدة (كلوا بللوا..) وقد ملأ صندوقه بأدوات يحتاجها أثناء البيع! من خل وفلافل و(شرشو) يصاد به زبائنه ويغريهم برائحته! وهو – أعني البائع – يجيد النداء حتى إن صوته كان يملأ جنبات الحي ويغري سامعيه بالشراء مقابل (العوض) المالي الذي يجمعه الزبائن!
وهؤلاء ثلة من الغلمان يجتمعون في شركة أسهم تجارية كي يبيع الحلوى واليانصيب (شختك بختك) وقد ملؤوا (دكانهم الخشبي) بشتى أنواع البضائع!
وهؤلاء ثلاثة كنت أحدهم .. اشتركوا في بيع الحلوى ذات الأرقام واليانصيب.. وقد اختاروا مكاناً لبيعهم: أحد أسقف البيوت!! فالمشتري الذي لا يستطيع الصعود ترمى عليه البضاعة رمياً وعليه أن يقذف برياله! وهي طريقة جديدة مبتكرة لكسب الزبائن الذي يحبون هواية الصعود على الجدران والقفز من فوق الغرف!
ولا سيما أنها هواية محببة إلى النفوس في ذلك الوقت! وحتى أكشف سر المكان وأهميته في جلب الزبائن أقول لكم: إنه لم يحضر لنا من (الزبائن الكرام) بعد اختيار الموقع إلا زبون واحد فقط أذكره جيداً.. وأحتفظ باسمه خشيةً من (العين)! ولست أنساه ما حييت لأنه الوحيد الذي أشعرنا (بالربح) وكان رياله مباركاً! لا أدري كيف اقتسمناه فيما بعد!
ومن طرائف هذه (الشركة الميمونة) أن أحد الزبائن قبل أن نصعد إلى أعلى اكتشف طريقة ترتيب الأرقام واستدل على الطريقة التي تأتي له بالأرقام السعيدة و(الدرابيل الكبيرة)! فلما رأيناه أوشك أن يشتري كل السلعة وبمال زهيد! فزعنا إلى بيوتنا وأخرجنا ريالاتنا واشترينا من عند أنفسنا على طريقه كي نظفر بالرقم السعيد ولم نفطن إلى أنا نحن أصحاب البضاعة! ونستطيع أقتسامها بلا أرقام!!
وإبراءً للذمة فإن بيع اليانصيب وما شابهها من بضائع الغرر والضرر محرمة شرعاً ولا يجوز بيعها ولا شراؤها.. ولكنا في ذلك الوقت في زمن الجهل!!
هكذا كان السوق في حارتنا القديمة أهازيج وأصوات مختلطة ترتفع وتنخفض حسب حاجة البائع إلى النقود.. وحسب حرصه على استجلاب زبائنه فكلما ازدادت رغبته في الربح ازداد صوته وتمددت حبائل حنجرته كي يصطاد بها (الزبائن)!
المهم أن حارتنا القديمة كانت ممتعة جداً وكانت الحياة فيها نشطة جميلة يملؤها الباعة بالضجيج والأهازيج والأطفال فيها غادون رائحون بين مشترٍ وبائع!
كتب : سعود الصاعدي
عندما يسفر الصباح وتطل الشمس من خدرها من خلف الجبل تبدأ أصوات الطيور تتسلل إلى أذن الحي ليفيق النائمون.. وتدب الحركة في شريان الحارة القديمة! وما هي إلا لحظات حتى تمتلئ قارعة الطريق بالغادي والرائح من الباعة المتجولين وترتفع أهازيج من أفواههم لتنطلق منادية أبناء الحارة.. فهذا بائع ينادي بأعلى صوته.. (حلو برد مال الشفا .. يا بليلة كل يا وليد!) وآخر ينادي على (الكراث والليمون) يحملها في زنبيل من الخصف ويغطيها بأكياس مبللة بالماء.. يحملها في تؤدة وسكينة ويسير بأقدامٍ أنهكها طول الزمان، وبضاعته على رأسه المشتعل بياضاً!
وهناك بائع يبيع (الحلوى) بالبيض! على طريقة الاستبدال وهي طريقة قديمة جداً جاءت من الزمن البعيد قبل أن تظهر النقود! وقد كان الباعة المتجولون غادين رائحين في الحي صباحاً ومساءً يدخل هذا ويخرج ذاك فلم يكن أحد يذهب إلى السوق ولم يعرفن النساء التجول في الأسواق لأن السوق كان يأتي إليهن فهذا (فرّقنا) يحمل (بقشته) الممتلئة بالثياب فإذا رأينه ربات البيوت برزن له على الأبواب واشترين من عنده ما يحل في صدورهن البهجة والسرور.. بلا بطر ولا إسراف في الملابس على أني ليست أدري ماذا يعني (فرقنا) للنساء في ذلك الوقت لأنه إذا أقبل أقبلن عليه مسرورات وكأنه من أهل الدار.. ربما لأنهن يعتقدن جهلاً أنه ليس رجلاً! أو أنه غير مخلوق من الطين وإنما خلق من الثياب التي يبيعها فهن يعتبرنه كالبضاعة التي على عاتقه!! أقول ربما!!
ومن الباعة المتجولين في ذلك الوقت زمرة من الأطفال الذين صاروا الآن شباباً مفتولي السواعد!
فهذا أحدهم يحمل صندوق البليلة على رأسه وينادي في عصامية فريدة (كلوا بللوا..) وقد ملأ صندوقه بأدوات يحتاجها أثناء البيع! من خل وفلافل و(شرشو) يصاد به زبائنه ويغريهم برائحته! وهو – أعني البائع – يجيد النداء حتى إن صوته كان يملأ جنبات الحي ويغري سامعيه بالشراء مقابل (العوض) المالي الذي يجمعه الزبائن!
وهؤلاء ثلة من الغلمان يجتمعون في شركة أسهم تجارية كي يبيع الحلوى واليانصيب (شختك بختك) وقد ملؤوا (دكانهم الخشبي) بشتى أنواع البضائع!
وهؤلاء ثلاثة كنت أحدهم .. اشتركوا في بيع الحلوى ذات الأرقام واليانصيب.. وقد اختاروا مكاناً لبيعهم: أحد أسقف البيوت!! فالمشتري الذي لا يستطيع الصعود ترمى عليه البضاعة رمياً وعليه أن يقذف برياله! وهي طريقة جديدة مبتكرة لكسب الزبائن الذي يحبون هواية الصعود على الجدران والقفز من فوق الغرف!
ولا سيما أنها هواية محببة إلى النفوس في ذلك الوقت! وحتى أكشف سر المكان وأهميته في جلب الزبائن أقول لكم: إنه لم يحضر لنا من (الزبائن الكرام) بعد اختيار الموقع إلا زبون واحد فقط أذكره جيداً.. وأحتفظ باسمه خشيةً من (العين)! ولست أنساه ما حييت لأنه الوحيد الذي أشعرنا (بالربح) وكان رياله مباركاً! لا أدري كيف اقتسمناه فيما بعد!
ومن طرائف هذه (الشركة الميمونة) أن أحد الزبائن قبل أن نصعد إلى أعلى اكتشف طريقة ترتيب الأرقام واستدل على الطريقة التي تأتي له بالأرقام السعيدة و(الدرابيل الكبيرة)! فلما رأيناه أوشك أن يشتري كل السلعة وبمال زهيد! فزعنا إلى بيوتنا وأخرجنا ريالاتنا واشترينا من عند أنفسنا على طريقه كي نظفر بالرقم السعيد ولم نفطن إلى أنا نحن أصحاب البضاعة! ونستطيع أقتسامها بلا أرقام!!
وإبراءً للذمة فإن بيع اليانصيب وما شابهها من بضائع الغرر والضرر محرمة شرعاً ولا يجوز بيعها ولا شراؤها.. ولكنا في ذلك الوقت في زمن الجهل!!
هكذا كان السوق في حارتنا القديمة أهازيج وأصوات مختلطة ترتفع وتنخفض حسب حاجة البائع إلى النقود.. وحسب حرصه على استجلاب زبائنه فكلما ازدادت رغبته في الربح ازداد صوته وتمددت حبائل حنجرته كي يصطاد بها (الزبائن)!
المهم أن حارتنا القديمة كانت ممتعة جداً وكانت الحياة فيها نشطة جميلة يملؤها الباعة بالضجيج والأهازيج والأطفال فيها غادون رائحون بين مشترٍ وبائع!
السبت أكتوبر 12, 2013 6:48 pm من طرف أبو مشاري
» شخصيات من الحي
الأحد أبريل 10, 2011 12:23 am من طرف زائر
» الشنقيطي يشرح بمسجد التنعيم
الإثنين أكتوبر 05, 2009 3:46 am من طرف ابو صبا
» منازل ايران قبل 700 سنة
الجمعة سبتمبر 04, 2009 6:18 am من طرف أبو مشاري
» رمضان شاهد لك او عليك
الخميس سبتمبر 03, 2009 10:52 am من طرف أبو مشاري
» حياة القلوب
الإثنين أغسطس 31, 2009 11:24 pm من طرف أبو مشاري
» اسئلة بدون مجاملة للواثقين فقط
الأربعاء أغسطس 26, 2009 1:58 am من طرف ابو صبا
» تحديد القبلة بالجوال .........راااااائع
الأحد أغسطس 16, 2009 8:45 am من طرف ابو صبا
» المصحف الشريف على شاشتك كأنك تلمسه
الأحد أغسطس 16, 2009 8:26 am من طرف ابو صبا